الذباب الإلكتروني: آداة تحجيم أفكار الخليجيين خارج الصندوق
يتموضع المجتمع الإلكتروني، أو الافتراضي، اليوم بوصفه عالمًا موازياً للواقع، يؤثر فيه ويتأثر به. تعاظم دورهذا المجتمع وتأثيره، خلق اسقاطات مباشرة من الواقع وبعث سياسات جديدة ومتسارعة. يشمل ذلك ظهور مصطلحات مستحدثة، كالمؤثرين الاجتماعيين عبر وسائل التواصل، الجيوش السيبرانية والذباب الالكتروني وغيرها.
يأخذ مصطلح “الذباب الإلكتروني” حيزًا كبيرًا في توصيف مثيري الحملات الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي خاصة مع بدء الأزمة الخليجية في عام 2017 بين كل من الإمارات والسعودية والبحرين مصر من جهة، وقطر من جهة أخرى. تراشقت الأطراف المتنازعة التهم حول ضلوع ومسؤولية السلطات الحكومية في بعض هذه البلدان في افتعال هذه الحملات وتمويلها عبر انشاء الآف الحسابات الوهمية على تويتر، موقع التواصل الاجتماعي الأشهر والأكثر تداولًا في الخليج، وبما يشمل التعليق في نفس الوقت على قضية واحدة بشكل مبرمج لتصبح في قوائم الترند الوطنية والعالمية.
ولفهم الارتباط القائم بين الانظمة الحاكمة في الخليج وهذه الجيوش الوهمية، علينا فهم علاقة هذه الدول بالإعلام ، اعتادت دول الخليج بسط سيطرتها على غالبية وسائل الإعلام التقليدية، تشرف على المحتوى المنتج وتوجهه بما يتناسب مع سياساتها ومصالحها. لكن مع بروز وتطور وسائل الإعلام الجديدة وبخاصة شبكات التواصل الاجتماعي التي شكلت فضاءًا مفتوحًا لحرية الرأي والتعبير، ظهرت إلى العلن آراء وأفكار ومطالب جديدة ترتبط بالحريات وحقوق الانسان وبناء الدولة والهوية الوطنية.
أنتج ذا التطور مشكلتين أساسيتين، ترتبط الأولى ببروز أفكار لا عملت الأنظمة لسنوات على كبتها وحجبها، والمشكلة الثانية تتمثل في صعود نجم شخصيات مجتمعية سياسية/حقوقية/اعلامية وجدت في وسائل التواصل منبرًا للتعبير عن أفكارها وتطلعاتها للتغيير، الأهم من ذلك، هو أن هذه الشخصيات حظت وتحضى بتفاعل جماهيري حولها وحول ما تنتجه من أفكار ومطالب.
الذباب وصناعة الرأي العام
دعت هذه التحديات الناشئة بعض الأنظمة الخليجية إلى تحديث أساليبها، فوجدت في غزو المنصات الإلكترونية سبيلًا لفرض سيطرتها وهيمنتها على الفضاءات الإلكترونية.
الذباب الإلكتروني هو واحدة من أهم الأدوات التي تعتمدها بعض حكومات دول الخليج. تكمن مهمة هذه الحسابات الإلكترونية (المزيفة) في صنع محتوى وتفاعل وهمي هدفهُ تشكيل رأي عام “مفتعل” بواسطة “كيانات” وهمية تُعرف باسم روبوتات الويب (BOTS). تواجه الجماعات الحكومية المعنية (جهات أمنية وسياسية واعلامية) بادارة وتوجيه هذه اليد الضاربة لمواجهة الخصوم ولصناعة محتوى مغاير ومخادع على المنصات الاجتماعية، بما يشمل تعزيز أفكار ضد أخرى، تسويق شخصيات مقربة من التوجهات الحكومية على حساب شخصيات أخرى تتبنى وجهات نظر مغايرة.
لعب الذباب الإلكتروني دورًا محوريًا في تأجيج الخلاف بين دول الخليج، وتصدرت أثناء الأزمة وسوم سياسية مسيئة استعملت لشيطنة قطر أو لاستصغار دورها وذمها. في تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست وقتها، تحدثت الصحيفة عن الحسابات الآلية على تويتر معتبرةً أن السعودية والامارات حاولتا تشكيل رأي عام مناهض للدوحة، وأنّ الأزمة أبزرت بشكلٍ واضح اختراقات إعلاميّة وطرقًا غير شرعية في استخدام مواقع التواصل الاجتماعيّ وتجنيدًا لشركات غربية للمساعدة في شن حملات دعائية ضدها.
في المقابل، استعملت وسوم أخرى للتصويب على السعودية والإمارات، ووفقًا لوسائل إعلام إماراتية وسعودية، عملت قطر على تمويل حملات إلكترونية مضادة. يشير بحث أجراه مارك جونز، أستاذ في تاريخ الخليج وشبه الجزيرة العربية في جامعة اكستر البريطانية، أن كمّا كبيرًا من الحسابات النشطة على موقع تويتر في الخليج، وفي السعودية تحديدًا، هي حسابات آلية تشترك بنفس موعد الإنشاء ونفس المتابعين وطرح المواضيع ذاتها ولا تحاول هذه الحسابات الآلية التفاعل مع المستخدمين بشكل مباشر، بل تسعى إلى التركيز على زيادة الانتشار لبعض التغريدات التي يقوم بها اشخاص ذوي ملحوظية عالية.
سعود القحطاني: الأب الروحي للذباب الإلكتروني
يربط كثير من المراقبين “الذباب الالكتروني” بسياسة كان يقودها المسؤول السابق في الديوان الملكي السعودي سعود القحطاني، تشير هذه الاتهامات إلى أن القحطاني كان يقود جيشا من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي للدفاع عن صورة ولي العهد في السعودية الأمير محمد بن سلمان آل سعود وترهيب الخصوم، وهذا ما عزّزته وثائق نشرها موقع ويكيليكس عن تواصل القحطاني سنة 2012 مع شركة تجسس ايطالية. وفي هذا الاطار، اعلنت شركة تويتر في 2 ابريل من العام الماضي، عبر حسابها الرسمي حذفها ل 5350 حسابًا مرتبطين بشبكة تديرها السعودية تعمل في دول أخرى بما في ذلك الإمارات ومصر، وتقوم بنشر محتوى يشيد بالقيادة السعودية.
فيما يتعلق بالنشطاء الحقوقيين، تقوم مجاميع الذباب الإلكتروني باستهدافهم وتشويه صورتهم أمام الرأي العام في بلدانهم بوصفهم عملاء للخارج او اتهامهم بنشر”أخبار كاذبة” لإثارة الفتن والطائفية والكراهية” و”الإضرار بسمعة الدولة ومكانتها”. في عام 2018 ، نشر حساب موالٍ للحكومة السعودية على تويتر صورا لمعتقلات حقوقيات مرفقة بكلمة “خائنة” بالأحمر على وجوههن ما أدى إلى تجييش حملة منسّقة ضدهن على مواقع التواصل واعتقال 4 نساء أخريات من ضمنهن لجين الهذلول وعزيزة اليوسف وإيمان النفجان. وهو ما تقرر بعد حادثة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي حيث عمل الذباب الإلكتروني على تصويره كخائن لبلاده والترويج لفكرة أنّ السعودية هي الجهة الوحيدة المهتمة بسلامة خاشقجي والتهجّم على خطيبته وإهانتها.
تويتر: سياسات المواجهة والتصدي
تُحارب سياسة موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” الجديدة الاستخدامات المسيئة وفي طليعتها نشر نفس المحتوى من حسابات عدة، وبما يشمل التفاعلات الوهمية مثل التعليق أو إعادة التغريد أو الإعجاب.
ويعمل المبرمجون في “تويتر” على محاربة الأخبار الكاذبة و”الجيوش الإلكترونية” عبر تحديد صلاحيات بعض المواقع والأدوات المساعدة التي تنشر من أكثر من حساب في نفس الوقت مثل (Tweetdeck)، كما يطلب من كافة أصحاب الحسابات توثيقها من خلال كود يرسل لرقم الهاتف.
لكن بحسب الخبير في معهد تكنولوجيا الحاسوب، نيام ياراغي، فإن حملة الحذف الأخيرة التي قامت بها منصة تويتر سيكون لها “أهمية رمزية فقط وهي مجرد نقطة في المحيط” إذ أن “الجهات المقتدرة” ماديا قادرة على الالتفاف حول هذه الاجراءات عبر تمويل أشخاص حقيقيين لإدارة الحسابات. بالتالي فإن فكرة تحويل أناس حقيقيين إلى ذباب تدعونا للتفكير جديًا في آليات مواجهة هذه الظاهرة، بعيدًا عن المنظور التقني وحسب.